mkht1422.12@gmail.com

للتواصل: mkht1422.12@gmail.com

الأحد، 7 سبتمبر 2025


مدى واقعية تنبؤات الأكاديمي في علم المستقبليات جورج فريدمان للقرن الواحد والعشرين، بعد مضي ربع القرن


مقدمة

منذ فجر التاريخ، ظلّت محاولة استشراف المستقبل هاجسًا يلازم المفكرين والساسة. فقراءة الغد تمنح صانعي القرار فرصة الاستعداد والتحكم بمسارات الأحداث. وفي هذا السياق، يبرز اسم جورج فريدمان، الأكاديمي الأمريكي ومؤسس مركز الدراسات الجيوسياسية المعروف "ستراتفور"، الذي عُرف بلقب "ظلّ وكالة المخابرات الأمريكية" بسبب دقة تحليلاته الجيوسياسية وجرأته في تقديم توقعات طويلة المدى.
في كتابه "القرن القادم" (The Next 100 Years) الصادر عام 2009، حاول فريدمان أن يرسم خريطة القرن الحادي والعشرين بكامله، مستندًا إلى منطق الحتميات الجغرافية والسياسية. ومع دخولنا الربع الثاني من هذا القرن، يصبح من المهم فحص مدى واقعية تلك التنبؤات، وما تحقق منها وما تعثر.


أولاً: أهم ملامح تنبؤات فريدمان للقرن الحادي والعشرين

  1. الولايات المتحدة كقوة مهيمنة
    رأى فريدمان أن الولايات المتحدة ستبقى القوة العالمية الأولى طوال القرن، وأن كل الأزمات التي تمر بها لن تغير هذه الحقيقة. فهي – بحسبه – تملك مقومات لا تضاهى: موقع جغرافي حصين، أسطول بحري قادر على التحكم بالمحيطات، واقتصاد متجدد يقوم على الابتكار.

  2. تراجع روسيا
    اعتقد أن روسيا بعد فترة من الانتعاش ستواجه حدودها الديموغرافية والاقتصادية، وأنها ستدخل في دوامة أزمات تؤدي في النهاية إلى تفككها أو انكماش نفوذها، بعد مرحلة مؤقتة من الاستفزازات العسكرية.

  3. صعود قوى إقليمية جديدة

    • تركيا: ستستعيد مكانتها كقوة إقليمية كبرى، استنادًا إلى موقعها الاستراتيجي وعمقها التاريخي.

    • بولندا: ستصبح لاعبًا محوريًا في أوروبا الشرقية، بسبب موقعها بين ألمانيا وروسيا.

    • اليابان: ستعود للعب دور عالمي بفضل اقتصادها المتين وتفوقها التكنولوجي.

    • المكسيك: ستغدو منافسًا اقتصاديًا وسياسيًا للولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن.

  4. أوروبا المنقسمة
    توقع أن الاتحاد الأوروبي سيعاني أزمات متكررة، وأن النزعات القومية ستحدّ من قدرته على التحول إلى قوة موحدة، خصوصًا مع التفاوت الاقتصادي بين أعضائه.

  5. صدامات دولية وحروب كبرى
    رأى أن القرن لن يخلو من مواجهات عسكرية كبرى، قد تصل إلى حدّ نشوب حرب عالمية منتصف القرن، بين الولايات المتحدة من جهة، وتحالفات تقودها قوى صاعدة مثل تركيا واليابان من جهة أخرى.


ثانياً: التقييم بعد مرور ربع قرن

1. الولايات المتحدة: الهيمنة مستمرة رغم التحديات

لا شك أن الولايات المتحدة ما تزال القوة العالمية الأولى عسكريًا وتكنولوجيًا، فهي تقود سباق الذكاء الاصطناعي، والفضاء، والتفوق البحري. لكن فريدمان لم يعطِ وزنًا كافيًا للصعود الصيني، الذي تحوّل إلى التحدي الأكبر للهيمنة الأمريكية، سواء من خلال "مبادرة الحزام والطريق" أو النفوذ التكنولوجي في مجالات الاتصالات والطاقة المتجددة.

2. روسيا: صعود ثم مأزق

منذ 2014، مع ضم القرم، ومن ثم حرب أوكرانيا عام 2022، عادت روسيا لتتصدر المشهد العالمي. لكن العقوبات الغربية وتكاليف الحرب جعلتها تواجه عزلة اقتصادية وسياسية، وهو ما قد يقربها من سيناريو التراجع الذي رسمه فريدمان، وإن بوتيرة أبطأ مما توقع.

3. أوروبا: الاتحاد في مأزق

أزمة "بريكست"، وتصاعد النزعات القومية، وأزمة الهجرة، وتبعات الحرب في أوكرانيا، كلها أكدت أن الاتحاد الأوروبي أقل تماسكًا مما أراده أنصاره. وهنا تبدو نبوءة فريدمان عن هشاشة الاتحاد قريبة جدًا من الواقع.

4. القوى الإقليمية

  • تركيا: أثبتت حضورها في الشرق الأوسط والقوقاز والبحر الأسود وشرق المتوسط، عبر سياسة خارجية نشطة وتفوق في الصناعات الدفاعية، ما يضعها في موقع متقدم كما توقع فريدمان.

  • بولندا: بالفعل صارت رأس الحربة الأوروبية في مواجهة روسيا، واستثمرت في تعزيز قدراتها العسكرية بشكل لافت.

  • اليابان: رغم قوتها الاقتصادية، بقيت مقيدة بدستورها السلمي، لكن التطورات الأخيرة (زيادة ميزانية الدفاع والتحالف مع واشنطن ضد الصين) تشير إلى تحولات بطيئة نحو ما تنبأ به فريدمان.

  • المكسيك: لم تصل بعد إلى المكانة التي رسمها، رغم تحسن موقعها الاقتصادي بفضل قربها من السوق الأمريكية ونمو قطاع التصنيع.

5. الحروب والصراعات

لم تندلع حرب عالمية حتى الآن، لكن العالم يعيش على وقع نزاعات متزايدة: حرب أوكرانيا، صراع النفوذ في بحر الصين الجنوبي، وحروب الشرق الأوسط. هذه الأزمات قد تكون نذرًا لصدامات أكبر في المستقبل، لكنها لم تصل بعد إلى حجم الحرب الكونية التي رسمها فريدمان.


ثالثاً: بين الدقة والمبالغة في تنبؤاته

  • ما أصاب فيه:

    • استمرار الهيمنة الأمريكية حتى الآن.

    • هشاشة الاتحاد الأوروبي.

    • بروز تركيا وبولندا كقوتين صاعدتين.

  • ما بالغ فيه:

    • تجاهل صعود الصين كقوة موازية، بل منافسة للولايات المتحدة.

    • التسرع في توقع انهيار روسيا، بينما أظهرت قدرتها على الصمود والمناورة.

    • المبالغة في قوة اليابان والمكسيك حتى هذه اللحظة.

  • ما أهمله:

    • لم يمنح التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، ولا قضايا التغير المناخي، الوزن الذي يفرضه الواقع اليوم على سياسات العالم.


خاتمة

بعد مرور ربع قرن من القرن الحادي والعشرين، يمكن القول إن تنبؤات جورج فريدمان كانت مزيجًا بين الواقعية والدقة في بعض الاتجاهات الكبرى، والمبالغة أو التجاهل في اتجاهات أخرى. لقد أصاب في تشخيص هشاشة أوروبا وصعود تركيا وبولندا، لكنه قلل من شأن الصين وأعطى روسيا عمرًا أقصر مما أثبتته الأحداث.
إن دروس فريدمان تكشف أن قراءة المستقبل مهمة شاقة، فهي ليست علمًا دقيقًا، بل اجتهاد يعتمد على موازنة بين الثابت والمتغير. ومع ذلك، يبقى ما كتبه مادة تحليلية مهمة لفهم ديناميكيات القرن الحالي، والتفكير في المسارات القادمة للعالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  أثر التكنولوجيا في تشكيل ميزان القوة في العالم مقدمة لم يعد ميزان القوة في العالم يعتمد فقط على العوامل العسكرية أو الاقتصادية التقليدية...